فصل: تفسير الآيات (8- 9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (8- 9):

{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)}
قوله عز وجل: {وَيَدْرَأُ} يدفع، {عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وأراد بالعذاب الحد، كما قال في أول السورة: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} أي: حدهما، ومعنى الآية: أن الزوج إذ لاعن وجب على المرأة حد الزنا، وإذا وجب عليها حد الزنا بلعانه فأرادت إسقاطه عن نفسها فإنها تلاعن، فتقوم وتشهد بعد تلقين الحاكم أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به، وتقول في الخامسة علي غضب الله إن كان زوجي من الصادقين فيما رماني به.
ولا يتعلق بلعانها إلا حكم واحد وهو سقوط الحد عنها، ولو أقام الزوج بينة على زناها فلا يسقط الحد عنها باللعان. وعند أصحاب الرأي: لا حد على من قذف زوجته، بل موجبه اللعان، فإن لم يلاعن يحبس حتى يلاعن، فإذا لاعن الزوج وامتنعت المرأة عن اللعان حبست حتى تلاعن.
وعند الآخرين اللعان حجة على صدقه، والقاذف إذا قعد عن إقامة الحجة على صدقه لا يحبس بل يحد كقاذف الأجنبي إذا قعد عن إقامة البينة.
وعند أبي حنيفة موجب اللعان وقوع الفرقة ونفي النسب، وهما لا يحصلان إلا بلعان الزوجين جميعا، وقضاء القاضي.
وفرقة اللعان فرقة فسخ عند كثير من أهل العلم وبه قال الشافعي، وتلك الفرقة متأبدة حتى لو كذب الزوج نفسه يقبل ذلك فيما عليه دون ما له، فيلزمه الحد ويلحقه الولد ولكن لا يرتفع تأبيد التحريم.
وعند أبي حنيفة فرقة اللعان فرقة طلاق فإذا كذب الزوج نفسه جاز له أن ينكحها. وإذا أتى ببعض كلمات اللعان لا يتعلق به الحكم. وعند أبي حنيفة إذا أتى بأكثر كلمات اللعان قام مقام الكل في تعلق الحكم به.
وكل من صح يمينه صح لعانه حرا أو عبدا، مسلما أو ذميا، وهو قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن، وبه قال ربيعة ومالك والثوري والشافعي وأكثر أهل العلم. وقال الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي: لا يجري اللعان إلا بين مسلمين حرين غير محدودين، فإن كان الزوجان أو أحدهما رقيقا أو ذميا أو محدودا في قذف فلا لعان بينهما.
وظاهر القرآن حجة لمن قال يجري اللعان بينهما، لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} وَلَمْ يفصل بين الحر والعبد والمحدود وغيره كما قال: {الذين يظاهرون من نسائهم} [المجادلة- 2]، ثم يستوي الحر والعبد هنا في الظهار، ولا يصح اللعان إلا عند الحاكم أو خليفته.
ويغلظ اللعان بأربعة أشياء: بعدد الألفاظ، والمكان، والزمان، وأن يكون بمحضر جماعة من الناس. أما الألفاظ المستحقة فلا يجوز الإخلال بها، وأما المكان فهو أن يلاعن في أشرف الأماكن، إن كان بمكة فبين الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وفي سائر البلاد ففي المسجد الجامع عند المنبر، والزمان هو أن يكون بعد صلاة العصر، وأما الجمع فأقلهم أربعة، والتغليظ بالجمع مستحب، حتى لو لاعن الحاكم بينهما وحده جاز، وهل التغليظ بالمكان والزمان واجب أو مستحب فيه قولان.

.تفسير الآية رقم (10):

{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)}
قوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} جواب لولا محذوف، يعني لعاجلكم بالعقوبة، ولكنه ستر عليكم ودفع عنكم الحد باللعان، وإن الله تواب يعود على من يرجع عن المعاصي بالرحمة، حكيم فيما فرض من الحدود.

.تفسير الآية رقم (11):

{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)}
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الآيات سبب نزول هذه الآية ما أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد العزيز بن عبد الله أخبرنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال: حدثني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا وكلهم حدثني طائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت له اقتصاصا وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة وبعض حديثهم يصدق بعضا.
قالوا: قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه وأيهن خرج سهمها خرج بها النبي صلى الله عليه وسلم معه قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أنزل الحجاب فكنت أحمل في هودج وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فرجعتُ فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه. قالت: وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكل العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب فتيممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها، فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول.
قالت: فهلك من هلك، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي بن سلول، قال عروة أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه.
وقال عروة أيضا: لم يسم من أهل الإفك أيضا إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} قال: عبد الله بن أبي بن سلول، قال عروة: كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسانُ وتقول: إنه الذي قال:
فإن أبي ووالدتي وعرضي ** لعرض محمد منكم وقاء

قالت عائشة: فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول كيف تيكم؟ ثم ينصرف، فذلك يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت حين نقهت، فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وكان متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكُنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا.
قالت: فانطلقتُ أنا وأم مسطح- وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، فاقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا؟ فقالت: أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال؟ قالت فقلت: ما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، قالت فازددت مرضا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: كيف تيكم؟ فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: يا أمتاه ماذا يتحدث الناس؟ فقالت: يا بنية هوني عليك فوالله لقل ما كانت امرأة قط رضية عند رجل يحبها لها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت فقلت: سبحان الله أو لقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي.
قالت: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه، فقال أسامة: أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي فقال: يا رسول الله لم يضيق اللَّهُ عليك والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك، قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا قط أغمضه أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله.
قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي وهو على المنبر، فقال: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما يدخل على أهلي إلا معي، قالت: فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل، فقال أنا يا رسول الله أعذرك فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، قالت: وقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنهُ فإنك منافق تجادل عن المنافقين، قالت: فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، قالت: فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت.
قالت: فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم قالت وأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي فبينا أبواي جالسان عندي، وأنا أبكي فاستأذنت عَلَيّ امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي.
قالت: فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه.
قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته فاض دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، فقال أبي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، فقالت أمي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيرا: إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني، فوالله لا أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف حين قال: {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} [يوسف- 18] ثم تحولت واضطجعت على فراشي وأنا أعلم والله يعلم أني حينئذ بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه الوحي فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه العرق مثل الجمان، وهو في يوم شات، من ثقل القول الذي أنزل عليه، قالت: فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال: يا عائشة أما والله فقد برأك الله، قالت: فقالت لي أمي: قومي إليه فقلت: والله لا أقوم إليه فإني لا أحمد إلا الله، قالت: وأنزل الله تعالى: {إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم} العشر الآيات، فلما أنزل الله في براءتي قال أبو بكر الصديق، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال أبو بكر الصديق: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال لزينب: ماذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا، قالت عائشةُ وهي التي تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع، قالت: وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك.
قال ابن شهاب: فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط، قالت عائشة: والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول: سبحان الله فوالذي نفسي بيده ما كشفت عن كنف أنثى قط. قالت: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله.
ورواه محمد بن إسماعيل عن يحيى بن بكير، أخبرنا الليث عن يونس عن ابن شهاب بإسناد مثله، وقال: وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه، إلى قوله: فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك.
ورواه أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي فسأل عني خادمتي، فقالت: لا والله ما علمت عليها عيبا إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خميرها أو عجينها، فانتهرها بعض أصحابه، فقال: اصدقي رسول الله حتى أسقطوا لهابه، فقالت: سبحان الله والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر، وفيه قالت: وأنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُفع عنه وإني لأتبين السرور في وجهه وهو يمسح جبينهُ ويقول: أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتكُ فقال لي أبواي: قومي إليهُ فقلت: لا والله لا أقوم إليهُ ولا أحمده ولا أحمد أحداُ ولكن أحمد الله الذي برأنيُ لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه.
أما تفسير قوله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ} بالكذب، والإفُك: أسوأ الكذب، سمي إفكا لكونه مصروفا عن الحق، من قولهم: أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه، وذلك أن عائشة كانت تستحق الثناء لما كانت عليه من الحصانة والشرف فمن رماها بالسوء قلب الأمر عن وجهه، {عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} أي: جماعة منهم عبد الله بن أبي بن سلول، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، زوجة طلحة بن عبيد الله، وغيرهم، {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّالَكُمْ} يا عائشة ويا صفوان، وقيل: هو خطاب لعائشة ولأبويها وللنبي صلى الله عليه وسلم ولصفوان، يعني: لا تحسبوا الإفك شرا لكم، {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لأن الله يأجركم على ذلك ويظهر براءتكم.
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ} يعني من العصبة الكاذبة {مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ} أي: جزاء ما اجترح من الذنب على قدر ما خاض فيه، {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} أي: تحمل معظمه فبدأ بالخوض فيه، قرأ يعقوب {كبره} بضم الكاف، وقرأ العامة بالكسر، قال الكسائي: هما لغتان. قال الضحاك: قام بإشاعة الحديث، وهو عبد الله بن أبي بن سلول.
وروى الزهري عن عروة عن عائشة {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} قالت: عبد الله بن أبي بن سلول، والعذاب الأليم هو النار في الآخرة.
وقد روى ابن أبي مليكة عن عروة عن عائشة في حديث الإفك قالت: ثم ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين، وكانت عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس، فقال عبد الله بن أبي، رئيسهم: من هذه؟ قالوا: عائشة قال: والله ما نجت منه وما نجا منها، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقود بها. وشرع في ذلك أيضا حسان، ومسطح، وحمنة، فهم الذين تولوا كبره.
وقال قوم: هو حسان بن ثابت. أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا بشر بن خالد، أخبرنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سليمان عن أبي الضحى عن مسروق قال: دخلت على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشد شعرا يشبب بأبيات له، وقال:
حصانٌ رَزانٌ ما تُزَنُّ بِرِيْبَةٍ ** وتُصبحُ غَرْثي من لُحومِ الغوافِلِ

فقالت له عائشة: لكنك لست كذلك، قال مسروق فقلت لها: لم تأذنين له أن يدخل عليك وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قالت: وأي عذاب أشد من العمى، وقالت: إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالذين رموا عائشة فجلدوا الحد جميعا ثمانين ثمانين.